سورة الشورى - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}
{ذلك} الفضل الكبير أو الثواب المفهوم من السياق هو {الذى يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما هو عادتهم في التدريج في الحذف، ولا مانع كما قال الشهاب من حذفهما دفعة، وجوز كون ذلك إشارة إلى التبشير المفهوم من {يُبَشّرُ} بعد والإشارة قد تكون لما يفهم بعد كما قرروه في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ونحوه، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب بيبشر على أنه مفعول مطلق له لأنه ضمير المصدر أي ذلك التبشير يبشره الله عباده؛ وزعم أبو حيان أنه لا يظهر جعل الإشارة إلى التبشير لعدم تقدم لفظ البشرى ولا ما يدل عليها وهو ناشيء عن الغفلة عما سمعت فلا حاجة في الجواب عنه أن كون ما تقدم تبشيرًا للمؤمنين كاف في صحة ذلك، ثم قال: ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية أي ذلك تبشير الله تعالى عباده، وليس بشيء لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفين الحد بغير دليل وقد ثبتت اسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.
وقرأ عبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحق. والجحدري. والأعمش. وطلحة في رواية. والكسائي. وحمزة {يُبَشّرُ} ثلاثيًا. ومجاهد. وحميد بن قيس بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر وهو معدي بالهمزة من بشر اللازم المكسور الين وإما بشر بفتحها فمتعد وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية لأن المعدي إلى واحد وهو مخفف لا يعدي بالتضعيف إليه فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على ما اتعاطاه لكم من التبليغ والبشارة وغيرهما {أَجْرًا} أي نفعًا ما، ويختص في العرف بالمال {إِلاَّ المودة} أي إلا مودتكم أياي {فِى القربى} أي لقرابتي منكم ففي للسببية مثلها في «إن امرأة دخلت النار في هرة» فهي عنى اللام لتقارب السبب والعلة، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. وقتادة. وجماعة. والخطاب إما لقريش على ما قيل: إنهم جمعوا له مالًا وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك عن سب آلهتهم فلم يفعل ونزلت، وله عليه الصلاة والسلام في جميعهم قرابة. أخرج أحمد والشيخان. والترمذي. وغيرهم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلاَّ المودة فِى القربى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: عجلت أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة أو للأنصار بنا على ما قيل: إنهم أتوه ال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت فرده، وله عليه الصلاة والسلام قرابة منهم لأنهم أخواله فإن أم عبد المطلب وهي سلمى بنت زيد النجارية منهم وكذا أخوال آمنة أمه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما في بعض التواريخ من الأنصار أيضًا أو لجميع العرب لقرابته عليه الصلاة والسلام منهم جميعًا في الجملة كيف لا وهم إما عدنانيون وقريش منهم وإما قحطانيون والأنصار منهم، وقرابته عليه الصلاة والسلام من كل قد علمت وذلك يستلزم قرابته من جميع العرب، وقضاعة من قحطان لا قسم برأسه على ما عليه معظم النسابين، والمعنى أن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة ونعمة تامة فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعتنون بحفظها ورعايتها.
وحاصله لا أطلب منكم إلا مودتي ورعاية حقوقي لقرابتي منكم وذلك أمر لازم عليكم، وروى نحو هذا في الصحيحين عن ابن عباس بل جاء ذلك عنه رضي الله تعالى عنه في روايات كثيرة وظاهرها أن الخطاب لقريش منها ما أخرجه سعيد بن منصور. وابن سعد. وعبد بن حميد. والحاكم. وصححه. وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال: أكثر الناس علينا في هذه الآية {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ} إلخ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله فكتب رضي الله تعالى عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه قال الله تعالى: {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} على ما أدعوكم عليه {إِلاَّ المودة فِى القربى} تودوني لقرابني منكم وتحفظوني بها. ومنها ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم، والظاهر من هذه الأخبار أن الآية مكية والقول بأنها في الأنصار يقتضي كونها مدنية، والاستثناء متصل بناء على ما سمعت من تعميم الأجر.
وقيل: لا حاجة إلى التعميم. وكون المودة المذكورة من أفراد الأجر إدعاء كاف لاتصال الاستثناء، وقيل: هو منقطع اما بناء على أن المودة له عليه الصلاة والسلام ليست أجرًا أصلًا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم أو لأنها لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم فنفعها عائد عليهم والانقطاع اقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقًا؛ وذهب جماعة إلى أن المعنى لا أطلب منكم أجرًا إلا محبتكم أهل بيتي وقرابتي. وفي البحر أنه قول ابن جبير. والسدي. وعمرو بن شعيب، و{فِى} عليه للظرفية المجازية و{القربى} عنى الأقرباء، والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم، ولمكانة هذا المعنى لم يقل: إلا مودة القربى، وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الاستثناء وانقطاعه على ما سبق، والمراد بقرابته عليه الصلاة والسلام في هذا القول قيل: ولد عبد المطلب، وقيل علي.
وفاطمة. وولدها رضي الله تعالى عنه مرفوعًا، أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ} إلخ قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال علي. وفاطمة. وولدها صلى الله عليه وسلم على النبي وعليهم».
وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في الدر المنثور ضعيف، ونص على ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر، وأيضًا لو صح لم يقل ابن عباس ما حكى عنه في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روى عن جماعة من أهل البيت ما يؤيد ذلك، أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيرًا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال: ما قرأت {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المودة فِى القربى} قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وروى ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: فينافي آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية، وإلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية *** تأولها منا تقي ومعرب
ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول:
بأية آية يأتي يزيد *** غداة صحائف الأعمال تتلى
وقام رسول رب العرش يتلو *** وقد صمت جميع الخلق قل لا
والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقد وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون ودة أهل البيت. فقد أخرج مسلم. والترمذي. والنسائي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اذكركم الله تعالى في أهل بيتي» وأخرج الترمذي. وحسنه. والطبراني. والحاكم. والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام:«أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي» وأخرج ابن حبان. والحاكم. عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار، وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب.
أخرج أحمد. والترمذي وصححه. والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنا لنخرج فنرى قريشًا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب أمرىء مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي». وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم وإلا فقيل: إن الحكم منسوخ، وفيه نظر، والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث أنهم قرابته صلى الله عليه وسلم كيف كانوا، وما أحسن ما قيل:
داريت أهلك في هواك وهم عدا *** ولأجل عين ألف عين تكرم
وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، فمودة العلويين الفاطميين الزم من محبة العباسيين على القول بعموم {القربى} وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضًا باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي:
يا راكبًا قف بالمحصب من منى *** واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرًا إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضًا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضًا حب آل محمد *** فليشهد الثقلان إني رافضي
ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينًا وأرى حبهم فرضًا على مبينًا فقد أوجبه أيضًا الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكورين قال: إنه عليه الصلاة والسلام قال: «مثل أهل بيني كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك» وقال صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين. أحدهما: السفينة الخالية عن العيوب، والثاني: الكواكب الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالبًا، فلذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى، والكثير من الناس في حق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم، ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط.
وقال عبد الله بن القاسم: المعنى لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن يود بعضكم بعضًا وتصلوا قراباتكم، وأمر {فِى} والاستثناء لا يخفى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجرًا إلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى عنى القرابة وليس المراد قرابة النسب؛ قيل: ويجري في الاستثناء الاتصال والانقطاع، واستظهر الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ***
البيت، وأراه على القول قبله كذلك.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {إِلا مَّوَدَّةَ فِى القربى} هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال: علي كرم الله تعالى وجهه واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة ينتج على رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث، أما أولًا: فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول، وقيل في هذا المعنى: إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئًا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضًا فيه منافاة ما لقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف: 104] وأما ثانيًا: فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم، وأما ثالثًا: فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] يأبى ذلك، وأما رابعًا: فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت وأجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل.
{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي يكتسب أي حسنة كانت، والكلام تذييل، وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس. والسدي، وأن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت، وقصة فدك. والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم، والكلام عليه تتميم، ولعل الأول أولى، وحب آل الرسول عليه الصلاة والسلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولًا أوليًا {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا} أي في الحسنة {حَسَنًا} ضاعفة الثواب عليها فإنها يزاد بها حسن الحسنة، ففي للظرفية و{حَسَنًا} مفعول به أو تمييز، وقرأ زيد بن علي. وعبد الوارث عن أبي عمرو. وأحمد بن جبير عن الكسائي {يزد} بالياء أي يزد الله تعالى. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو {حسنى} بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ} ساتر ذنوب عباده {شَكُورٍ} مجاز من أطاع منهم بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة، وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد صلى الله عليه وسلم شكور لحسناتهم.


{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)}
{أَمْ يَقُولُونَ} بل أيقولون {افترى} محمد عليه الصلاة والسلام {عَلَى الله كَذِبًا} بدعوى النبوة أو القرآن، والهمزة للإنكار التوبيخي وبل للإضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شرًا وشركًا أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلًا ودعة وعقلًا افتراء ثم افتراء على الله عز وجل فكأنه قيل: أيتما لكون التفوه بنسبة مثله عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله عز وجل الذي هو أعظم الفرى وأفحشها ولا تحترق ألسنتهم.
وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلى الله عليه وسلم من الافتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} فإن هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه الصلاة والسلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل: فإن يشأ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وما أحسن هذا التعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون، ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، فالكلام تعليل لإنكار قولهم، وأتى بإن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان، وقيل: إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين، ثم ذيل بقوله تعالى: {وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بكلماته} تأكيدًا للمفهوم من السابق من أنه ليس من الافتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة والسلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفتريًا كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه.
والفعل المضارع للاستمرار. والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على {يَخْتِمْ} وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعًا لإسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] {وَيَدْعُ الإنسان بالشر} [الإسراء: 11] وكان القياس إثباتها رسمًا لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على القياس، ويؤيد الاستئناف دون العطف على {يَخْتِمْ} إعادة الاسم الجليل ورفع {يُحِقَّ} وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين وبيان ارتباطهما بما قبلهما، وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي: لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلًا، وجوز هو أيضًا في قوله تعالى: {وَيَمْحُ} إلخ أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم وما بهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له، وحينئذٍ يكون اعتراضًا يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم، وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى: إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام لو افترى على الله تعالى كذبًا لمنعه من ذلك قطعًا، وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم إنه سبحانه لا يشاء صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعًا فكأنه قيل: لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينًا فحينًا تبين أنه من عند الله عز وجل، وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين، ولا يخفى عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعول المشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور، والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف في نظائر هذا التركيب أي فإن يشأ الله تعالى الختم على قلبك يختم، وإيهام كون القرآن ناشئًا منه صلى الله عليه وسلم لا منزلًا عليه عليه الصلاة والسلام، وقال السمرقندي: المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه له صلى الله عليه وسلم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر، فالتفريع بالنظر إلى المعنى المكنى عنه، وحاصله أنهم اجترؤا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى، وفيه شمة مما ذكره الزمخشري.
وعن قتادة. وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن، والمراد على ما قال ابن عطية الرد على مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل: وكيف يصح أن تكون مفتريًا وأنت من الله تعالى رأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شاء لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك، وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى، وذكر القشيري أن المعنى فإن يشأ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد، وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة والسلام افترى على الله تعالى كذبًا، وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم، وقال مجاهد، ومقاتل: المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر، ولا مانع عليه من عطف {يمح} على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجازم، و{أَن يُحِقَّ} حينئذٍ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم عاجلًا لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقًا وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه، وقيل: لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضًا أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى، وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه؛ ورا يقال: إن جملة {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ} من تتمة قولهم مفرعًا على {افترى} كأنه قيل: افترى على الله كذبًا فإن يشأ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئًا أو كأنه قيل: افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى غير ظاهرة، وكونها الإشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى، ولعل الأولى أن يكون {فَإِن يَشَإِ} إلخ مفرعًا على كلامهم خارجًا مخرج التهكم بهم، ولا بأس حينئذٍ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالباطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل: أم يقولون افترى على الله فإذن إن يشأ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل، وهذا كما تقول لمن أخبرك أن زيدًا افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جل وعلا الأمر على حسب ذلك.


{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)}
{وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى بعن لتضمنه معنى الإبانة ون لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم} [التوبة: 54] أي تؤخذ، وقيل: القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزًا عن ذنوب عباده وهو تكلف.
والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل وزادوا التفصي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيًا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتًا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينًا وهو كالاكسير ومن رأى الإكسير؟ فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه وإلا يدع له ويستغفر.
وفي الكشف التفصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد، واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعًا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الإحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق؛ ويشترط أيضًا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيًا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء، وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه ما لو رجع طلبًا للثناء أو رياء أو سمعه لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيًا للعقاب آجلًا وللذم عاجلًا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعًا لذلك.
وروى جابر أن أعرابيًا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته، وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها، ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر. واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها، وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم: لو تاب عن القبيح لكونه قبيحًا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته.
وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرًا دينيًا آخر وأيضًا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال: لو فعل الحسن لكونه حسنًا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث.
واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح ولا تمدح بالواجب، وفيه أيضًا بحث والأنفع في هذا المقام أدلة نفي الوجوب مطلقًا عليه عز وجل.
{وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر.
وقال الطيبي: المعنى من شأنه تعال شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيآتهم حض رحمته أو بشفاعة شافع، وقال المعتزلة: أي يعفو عن الكبائر إذا تيب عنها وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فالعفو عن السيئات عليه أعم من قبول التوبة لشموله الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وهو تعميم بعد تخصيص، والظاهر مع أهل السنة إذ لا دلالة في النظم الجليل على تخصيص السيئات نعم المراد بها غير الشرك بالإجماع.
{وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} بتاء الخطاب عند حفص. والأخوين. وعلقمة. وعبد الله وبياء الغيبة عند الجمهور وعلى الأول ففيه التفات وما موصولة والعائد محذوف أي يعلم الذي تفعلونه كائنًا ما كان من خير وشر فيجازى بالثواب والعقاب أو يتجاوز سبحانه بالعفو حسا تقتضيه مشيئته جل وعلا المبنية على الحكم والمصالح.
وقيل: يعلم ذلك فيجازى التائب ويتجاوز عن غيره إذا شاء سبحانه والأول أظهر. وفي الكشاف يعلم سبحانه ذلك فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات. وفي الكشف بعد نقله هو أي قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ} إلخ تذييل للكلام السابق يؤكد ما ذكره من القبول والعفو لأنه تعالى إذا علم العملين والعاملين جازى كلًا بما فعل فأولى أن يجازي هؤلاء المحسنين بأفعالهم، ثم فيه لطف وحث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له سبحانه في إمحاض التوبة، ونحن أيضًا لا ننكر أنه تذييل فيه تأكيد كما لا يخفى.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11